هذا الدين يجعل المؤمن - أهم ما يحرص عليه - المثل والمبادئ والأخلاق، لأن الإنسان يحيا في سبيل هذا المبدأ، وقد قال الله في هؤلاء القوم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} المائدة54
وهذا الصحابي الجليل صهيب الرومي رضي الله عنه لما وجد أن الكفار يضيقون عليه ليترك الإسلام ويرجع إلى الكفر ولا يستطيع ذلك، لأن بشاشة الإيمان خالطت شغاف قلبه، استخار الله وهاجر، فتبعوه بكثرة، وبكتيبة مجهزة مدرَّبة مدجَّجة بالسلاح، ليستعيدوه إلى مكة رغماً عنه، وليس معه إلاَّ سيفه ورمحه وقوسه وإيمانه بربِّه، وفى مسند الحارث يروى سعيد ابن المسيب رضي الله عنه:
{أقبل صهيب مهاجرا الى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش ونزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلا، وأيم الله لا تصلون ألي حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقى في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وان شئتم دللتكم على مالي وقينتي بمكة وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، ففعل، وفى رواية وأعطاهم علامة لذلك}
فاشترى نفسه منهم بماله، فآثر مبدأه على ماله، وآثر قِيَمَهُ الخالدة الإسلامية على هذه الحياة الدنيا لأن الإنسان قِيمَةٌ ومَثَلٌ ومَبْدَأ، إذا مات الإنسان، يقولون: مات فلان إنه كان وفيَّاًً، مات فلان كان رجلاً صادقاً، أو مات وقد كان رجلاً صادق الوعد، أو مات رجل الشهامة والمروءة، لكن إذا مات وعنده مليارات جمعها من الخبائث والغشِّ والخداع، يسبُّونَهُ ويلعنُونَه، ويقولون: كان يفعل كذا وكذا وكذا.
دَقَّاتُ قَلْبِ المَـرْءِ قَائِلَةٌ لَـــهُ إِنَّ الحَيَــاةَ دَقَـائِقٌ وَثَوَانِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَـانِ عُمُـرٌ ثَانِ
في الحال نزل له وسامٌ عظيم، نزل به الأمين جبريل، وأمر النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أن يطوِّقه به في عنقه أمام أصحابه مكتوبٌ عليه بمِدَادِ القدرة النوراني: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} البقرة207
فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما رآه: {ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى}{1}
ولهذا السبب كانت الهجرة، فالهجرة هي في الحقيقة هجرة في سبيل التمسك بالمثل والمبادئ والقيم الفاضلة التي أمرنا بها الله، ونوَّه على أهميتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله لنا فيها درساً عظيماً، لأن مَنْ يضحي بالدنيا في سبيل الحفاظ على المثل والمبادئ والقيم لا بد أن يذلِّل له ويسخِّر له الله كل ما في الدنيا، كما صنع مع حَبيبه ومُصطفاه صلى الله عليه وسلم، ومع أصحابه من الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم أجمعين.
فقد ضَحُّوا في سبيل المبدأ، لأن الإيمان عندهم إيمانٌ صادق، فكانت النتيجة أن أقام الله لهم دولة، وكسب الإسلام بهم جولة، وصار لهم في عالم الناس كلِّه صولة، وقذف الله الرعب منهم في قلوب أعدائهم، مع أنهم لا يملكون تكنولوجيا تناسب العصر الذي كانوا فيه، فقد كانت أسلحتهم بدائية بالنسبة للأسلحة الرهيبة عند الروم وعند الفرس، وقوتهم العددية لا تقارن بجيوش الأعداء، وأبدانهم ضعيفة، ولكن السرَّ أنَّ إيمانهم صلبٌ وصلدٌ وقويّ! وأنَّ الثبات على المبدأ يصنع المعجزات ويفجِّر الطاقات.
وهاكم مبدأ آخر نحتاج لترسيخه في القلوب، ألا وهو ما الغاية من هذه الحياة؟ ما سِرُّ نجاح هذه التربية الإيمانية؟ ذلك السرُّ أنَّه صلى الله عليه وسلم ربَّاهم على أن يكون الولد منهم، والرجل منهم، والفتاة منهن، كلٌّ له هدفٌ كريم يسعى إليه، ويبذل في سبيل تحقيقه كل ما يملك، ولذلك فإن ديننا الإسلامي لا يعرف شباباً بغير هويَّة، أى لا يدري لماذا خلقه الله في الأرض؟ وما رسالته التي كلَّفه الله بها؟ وما مهمته التي ينبغي أن يقوم بها لينفع نفسه وأهله ومجتمعه ووطنه والعالم كُلَّه؟
لا بد أن يكون للشاب أولاً هَدَفٌ نبيل، ومُثُلٌ طيِّبة، وقِيَمٌ فاضلة، يجعلها أمام عينيه، ويسعى لتحقيقها، هذا هو النسق الأول الذي ربَّى عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شباب الإسلام الأوائل، فجعل هدفهم هو نشر القيم الإنسانية الفاضلة التي جاء بها من عند الله بين ربوع هذه الحياة، ولا تستقيم الحياة إلا بهذه القيم التي تستمد من الإيمان، وأضرب مثلاً لذلك:
النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في مكة، كان أهل مكة يتركون عنده أى شئ يخشون ضياعه، لأنه لم يكن يوجد عندهم بنوك يحفظون فيها الأموال، ولا خزن يودعون فيها الأشياء الثمينة، فكان أى شئ يخشون عليه يعطونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليحفظه عنده مع اختلافهم معه في الدين، ومع أنهم يحاربونه ويعلنون عليه الحرب المستمرة التي لا تنقطع لكن لا تنقطع ثقتهم به.
وقريب من هذا حكاه لنا بعض من نثق بهم أنه اليوم في كولومبيا معبر مخدرات العالم من أمريكا الوسطى إلى أمريكا الشمالية، توجد أسوأ مدينة أو أخطر مدينة بالعالم لإنتشار جميع أنواع الجرائم بها وغياب الأمن تماما تقريباً، وبها قليلٌ من المسلمين، ولكن لا يسافر أحد من أهل البلدة ويترك أهله إلا ويأخذ مقتنياته وأمواله ويكتب عليها إسمه ويتركها وديعة عند أى جار مسلم ولو لم يعرفه
وقد سأل من أخبرنا بعض أهل البلدة الذين قابلهم: "ولماذا لا يهاجم المجرمون بيوت المسلمين؟" فأجابوه: " لا يجرؤ أى مجرم على ذلك فقد عهدنا أن الربَّ يحميهم فنحن نرى المسلمين علامة الطهر والنقاء والصفاء الذى يحيا بيننا" .. هذا اليوم يا إخواني ولا تعليق
{1} رواه ابن سعد والحارث وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم
[/frame]