بسم الله الرحمن الرحيم
مع فاتحة كل عام هجرى جديد يستحضر المؤمن قول الحَبيب صلى الله عليه وسلم الذى خصَّنا به وكل أمته إلى يوم الدين، بعد أن أعلن انتهاء الهجرة الزمانية والمكانية من مكة ومن حولها إلى المدينة المنورة فقال صلى الله عليه وسلم لنا ولمن بعدنا وللمسلمين أجمعين: {لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جِهادٌ ونيَّة}{1}
بعد فتح مكة وكان فى سنة ثمان من الهجرة النبوية لم يعد هناك هجرة مكانية، وإنما أصبحت الهجرة كلها فى النيَّة .
فبيَّن النبى صلى الله عليه وسلم لأمته فضل النية، وأنها روح كل الأعمال التى يتوجه بها المرء إلى رب البرية، فالأعمال كالأجسام، الجسم ظاهره الأعضاء وروحه التى تحركه وتسيره هى الروح التى نفخها فيه الحى القيوم، كذلك أعمال العباد نحو رب العباد عز وجل ظاهرها أوامر الشرع التى أمرنا بها الله وكلفنا بها فى كتابه، أو على لسان حبيبه ومصطفاه، وباطن الأعمال الذى لا حياة لها إلا به هو النية، فالنية روح الأعمال ولذا قال الحبيب: {إنَّمَا الأعمَالُ بالنِّيَّات وَإِنَّمَا لكل امرىء ما نَوَى، فَمنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ فَهَجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أو امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ}{2}
فالعمل بالظاهر امتثال لأمر الشارع الأعظم عز وجل، واقتداء بالحَبيب صلى الله عليه وسلم، لكن ثوابه وأجره وفتحه وقبوله كل ذلك يتوقف على نية العامل فيه إن كان يريد به رضاء الناس والسمعة والشهرة عند الخلق كان عمله رياءاً، فالرياء هو العمل من أجل الخلق، أى لا يقصد به إلا الخلق، لا نية فيه من قريب أو بعيد للحق، كل همه وبغيته فيه العمل الخلق، وفي مثله يقول صلى الله عليه وسلم: {مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، ومَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ،}{3}
والحديث بيان لقول الله جل فى علاه: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}، وشرط قبوله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} الكهف110
أى لا يجعل فى نيته عند توجهه للعمل أو قيامه به رغبة فى السمعة عند الخلق أو اكتساب المحمدة أو التفاخر أو التظاهر أو حتى الإعجاب بنفسه لأنه يعمل هذا العمل دون غيره، لأن هذا فى نظر الله وفى كتابه شرك لا يُقبل العمل به، وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى فى حديثه القدسى: {أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ}{4}
كل من عمل عملاً أشرك فيه مع الله فى الوجهة والقصد الخلق أو النفس أو السمعة أو حب الظهور فإنه بذلك حُرم القبول فى هذا العمل لأنه لم يأتى بالمواصفات الربانية التى اشترطها رب البرية لقبول الأعمال من جميع البرية وهى الإخلاص، والإخلاص يعنى أن يطلب بالعمل وجه الله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} غافر14
{1} صحيح البخارى عن ابن عباس وصحيح مسلم عن السيدة عائشة رضى الله عنهم
{2} صحيح البخارى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه
{3} مسند الإمام أحمد عن شداد بن أوس رضى الله عنه
{4} صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
[/frame]